بداية أقدم هذا التعقيب وأنا أطلع للتو على مضمون محاضرة الدكتور نبيل مرزوق. وعلى كل حال فإن المحاضرة تضمنت جهداً مشكوراً يعبر عن جدية السيد الباحث. وسوف تتركز مداخلتي ليس على احتمال وجود نواقص في المحاضرة وإنما محاولة لإضافة ما يمكن إضافته إليها.
إن الإطلاع على عنوان المحاضرة يوحي بمجموعة من الأسئلة الإشكالية التي تتطلب الإجابة عليها وهي:
1- هل هناك حدوداً لتدخل الدولة الاقتصادي المباشر عبر الإنفاق الاستثماري العام.
2- هل فعلاً أن زيادة الإنفاق العام الاستثماري يولد آثاراً موجبة في الاقتصاد، أم أن هذه الآثار قد تكون سلبية.
3- إذن ما هو الحجم الأمثل لهذا الإنفاق أو ما هو المعدل الأمثل (نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي).
4- ثم هل يؤثر الإنفاق الاستثماري العام سلباً أم إيجابياً على الإنفاق الاستثماري الخاص، بمعنى هل العلاقة بين الإنفاقين علاقة تكاملية أم هي علاقة تزاحمية.
ولقد لاحظت أن السيد المحاضر قد اجتهد في الإجابة على بعض هذه الأسئلة وأغفل الإجابة عن بعضها الآخر. وفي مقاربة لمحاولة الإجابة عن هذه الأسئلة فإنه يمكن الحديث في المحاور التالية:
أولاً: مبررات وجود القطاع العام (باعتبار أن هذا القطاع هو محل الاستثمار العام)
تشير الوقائع التاريخية إلى أن هناك أسباباً لنشوء القطاع العام وتطوره. ويأتي في مقدمة تفسيرات نشؤ هذا القطاع تلك المتعلقة بالدوافع الإيديولوجية، حيث أن سيطرة الأحزاب الشيوعية والاشتراكية في العديد من المجتمعات قد أدت إلى سيطرة النظم الناشئة على القطاعات الاقتصادية القائمة، كلاً أو جزءاً، عبر تأميمها ومن ثم عمدت إلى تطوير هذا القطاع وتوسيعه، كما حدث في الاتحاد السوفييتي والصين الشعبية، وكما حدث في سورية منذ عام 1963.
وثاني هذه الأسباب-المبررات تلك المتعلقة بالضرورات الاقتصادية، حيث تقتضي عملية الإسراع في إنجاز المشروع التنموي، ولاسيما في بلدان العالم الثالث، إلى قيام الدولة نفسها بالإنفاق الاستثماري-الإنمائي. ولقد ارتبط التوسع بالإنفاق الاستثماري في بعض الاقتصادات وخاصة النفطية منها تبعاً للطبيعة الريعية التي تصبغ هذه الاقتصادات، حيث يهيمن الريع النفطي الذي توفر لدى الدولة بطبيعة الحال، والذي تم توظيف جزء منه في مشروعات اقتصادية عامة.
وثالثاً، يمكن تفسير التوسع في الإنفاق الاستثماري العام ولاسيما في البلدان النامية خلال النصف الثاني من القرن العشرين بأسباب سياسية مرتبط بالرغبة في بناء سريع للدولة الحديثة في مجتمعات عانت فيها تجربة الدولة الوطنية من انقطاعات مهمة[1]. فالقطاع العام بالتعريف هو ظاهرة سياسية لم تنشأ من تلقاء نفسها بل بسبب خيارات وتفضيلات وقرارات سياسية أساساً[2]. ويهدف القطاع العام سياسياً إلى بسط سلطة الدولة على كل المناطق، وربط مصالح الأفراد بسلطة الدولة أو إلغاء الفاعليات المجتمعية الوسيطة نسبياً عن سلطة الدولة.
إن هذه المقاربات الثلاث لتفسير ظاهرة نشوء القطاع العام وتطوره ليست ناجزة كل على حدة في تفسير هذه الظاهرة ولكن تشترك ثلاث منها بمزيج وتفاعل يختلف تركيبه النسبي بحسب المجتمعات وبحسب درجة تطور هذا المجتمع.
ففي سورية كان هناك قطاع عام قبل عام 1963 (وبالأحرى قبل عام 1958) تحت تأثير العامل الاقتصادي التنموي ولكنه لأسباب إيديولوجية تم تأميم العديد من منشآت القطاع الخاص خلال الفترة 1963-1969 وقد تفاعل العامل الأول (الإيديولوجي) مع العامل السياسي خلال العقود التالية، أي منذ عام 1970 ولغاية عام 2000 تحديداً. حيث انطلاقاً من الأهداف الإيديولوجية الاشتراكية للدولة السورية في عهد الحركة التصحيحية، إضافة على رغبة الدولة في بسط سلطتها بعد عقود من الاضطراب والرغبة في ربط مصالح الأفراد بسلطة الدولة. أدى في نهاية السبعينيات إلى ضخ حجوم كبيرة من الاستثمارات في القطاع العام ومن ثم بدأ القطاع العام في التوسع والتمدد والتضخم لأنه أمن أداة سياسية لربط المصالح اليومية والحياتية للأفراد والجماعات باستقرار وديمومة النظام السياسي. يضاف على ذلك أن هذا القطاع قد أمن أداة قوة للدولة السورية في مواجهة الحصار الاقتصادي-السياسي في الثمانينيات وأمن إمكانية الاستمرار في التصدي للأخطار التي يمثلها المشروع الصهيوني التوسعي في مختلف العقود.
ثانياً: جدوى الإنفاق الاستثماري العام
في إطار ما تقدم يمكن الحديث عن نوعين أساسيين للجدوى للإنفاق الاستثماري العام، والذي محله القطاع العام، أولاً الجدوى السياسية؛ وثانياً الجدوى الاقتصادي لهذا الإنفاق.
في الحديث عن الجدوى السياسية لابد من أن نعيد استذكار أهداف الإنفاق الاستثماري العام سياسياً وهي بسط سلطة الدولة وربط مصالح الأفراد بسلطة الدولة. وتتحقق الجدوى السياسية بمقدار المنفعة الحدية السياسية، فكلما كان مزيد من الإنفاق العام يؤدي على مزيد من تحقيق الأهداف السياسية فإن هذا الإنفاق يعتبر مجدياً سياسياً إلى النقطة التي تصبح فيها كميات إضافية من هذا الإنفاق تؤدي إلى مزيد من تحقيق الأهداف السياسية، ولا يكون ذلك إلا في حالة تحقق الأهداف السياسية بشكل كامل وبالتالي فلا يوجد مبررات للاستزادة من هذا الإنفاق. إضافة إلى تلك النقطة التي تكون العوائد السياسية سالبة، أي عندما يصبح القطاع العام يشكل عبئاً سياسياً ثقيلاً على الدولة. في هاتين النقطتين فإن الجدوى السياسية تكون سالبة (لا جدوى).
وعندما يكتشف البعض أن القطاع العام بوصفه ظاهرة سياسية-اقتصادية قد استنفد أسباب وجوده (كلاً أو جزءاً) وبالتالي أصبح مردوده سالباً، فإن هذا البعض يبدأ بالتفكير لضرورة التخلي عن الدور الرعائي للدولة[3] . ويجد هذا التفكير مشروعيته مع كل انقطاع للتيار الكهربائي وانخفاض في نوعية الخدمات العامة (التعليم والصحة ...) ومع تفاقم ظاهرة البطالة واستشراء الفساد وتراجع معدلات النمو الاقتصادي. وبالتالي تبدأ الدولة في التخلي عن الإنفاق العام الاستثماري وتالياً الدعوة إلى إعادة الهيكلة والخصخصة بكل تصنيفاتها (خصخصة الإدارة والتخلي عن الملكية). وتبدأ مرحلة تراجع مصداقية الدولة.
وفي الحقيقة أن تخلي الدولة عن الإنفاق الاستثماري العام وترك القطاع العام بدون إصلاح له تأثيرات سياسية خطيرة باعتباره ذراعها الاقتصادي وأن تخليها عن هذه الذراع سوف يجعلها مكشوفة أمام الإصرار على ربط إحلال الإنفاق الاستثماري الخاص محل العام بإحداث تغييرات في البنية السياسية للدولة.
أما مايتعلق بالجدوى الاقتصادية للإنفاق العام الاستثماري فإن هذه الجدوى مرتبطة بالعلاقة بين هذا الإنفاق والناتج المحلي الإجمالي واتجاهات هذه العلاقة. ولقد جرت الأقلام في تحليل هذه العلاقة. ويمكن أن نشير إلى ثلاثة اتجاهات نظرية أساسية:
1- الاتجاه النيوكلاسيكي (قانون فاجنر)، حيث يؤكد هذا الاتجاه على أن الإنفاق الحكومي بشكل عام مرتبط بحجم الاقتصاد فكلما زاد هذا الحجم أدى ذلك إلى زيادة حجم الدولة وبالتالي الإنفاق العام الاستثماري والجاري.
2- الاتجاه الكينزي والذي أكد على أن للإنفاق الاستثماري دوراً تنموياً أساسياً في خلق النمو الاقتصادي عبر آليات مضاعف الحكومة والمعجل.
3- الاتجاه الثالث هو توافق واشنطن. وهو اتجاه منبثق عن الاتجاه الأول ويؤكد على الدور السلبي (الكابح) للإنفاق الاستثماري العام بعلاقته مع الناتج المحلي (القومي) الإجمالي. ويدعو أصحاب هذا الاتجاه والذي تبناه صندوق النقد الدولي خلال الفترة 1990-2000، إلى التخلي عن القطاع العام بتخفيض الإنفاق الاستثماري من ناحية في إطار سياسة التثبيت المالي والتخلص منه بالخصخصة في إطار سياسة الإصلاح الهيكلي.
ومع ميلنا إلى تبني الفكر الكينزي في إطار حديثنا عن الإنفاق الاستثماري العام في سورية، فإننا نشير إلى العلاقة بين الإنفاق الاستثماري العام والخاص.بمعنى أن الحديث عن طبيعة العلاقة بين الإنفاقين فيما إذا كانت هذه العلاقة تكاملية لجهة أن الإنفاق العام الاستثماري يقطر الإنفاق الاستثماري الخاص وسوف يقلص من استثماراته في الوقت الذي تزيد الدولة من إنفاقها الاستثماري، أو من جهة ثانية أن مزيداً من الاستثمار الحكومي يؤدي إلى إضعاف القطاع الخاص ودوره الاقتصادي.
وفي إطار البيانات المنشورة عن سورية ومن خلال الشواهد عبر السنوات الخمسة عشر الماضية يمكن التأكيد على أن العلاقة تكاملية بين القطاعين وأن القطاع العام في سورية يقطر القطاع الخاص. ويدل على ذلك أن تراجع الدور الاقتصادي للدولة منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي، لأسباب عديدة منها إفساح المجال أما القطاع الخاص، كان قد أدى إلى تراجع أداء هذا القطاع وبالتالي ذهب الاقتصاد السوري في نهاية عقد التسعينيات إلى مرحلة الركود الذي استمر تقريباً على تخوم عام 2002. وما تراجع الأداء الاقتصادي الكلي في سورية في السنوات التالية أو بقائه دون المستوى المأمول إلا نتيجة تخلي الدولة، على الأقل جزئياً، عن الإنفاق الاستثماري وعن دورها الاقتصادي.
في الإطار التطبيقي للعلاقة بين النمو الاقتصادي والإنفاق العام، فإنه لا بد من الإشارة إلى الجهود التطبيقية لتحديد وتمييز هذه العلاقة، انطلاقاً من مقولات كينزية، ومن ابرز هذه الجهود[4]:
1- نموذج رام (1986) وهو النموذج الأساسي الذي تم تبنيه وتعديله في الدراسات التالية.
2- نموذج بارو (1990) وهو من النماذج التطبيقية الرائدة في هذا المجال حيث قدمه في إطار محاسبة النمو النيوكلاسيكية وتوصل إلى ما بات يعرف بقانون بارو الذي ينص على أن الحجم المناسب للإنفاق الحكومي يصبح عند حده الأمثل عندما تكون قيمة الإنتاج الحدي لذلك الإنفاق واحداً صحيحاً.
3- نموذج كارس (1996) الذي طور نموذج رام وبموجبه جعل بالإمكان الوصول إلى استنتاجات متعلقة بحجم الإنفاق الحكومي وبمدى إنتاجية هذا الإنفاق من ناحية ثانية.
وبمحاولة أولية، وباستخدام نموذج كارس تبين لدينا أن الكفاية الحدية لرأس المال العام (الإنفاق الاستثماري التراكمي العام) بلغ 2.08 وهو مايشير إلى كفاءة عالية للإنفاق الحكومي قد تبدو غير متوقعة. وتعني هذه النتيجة أن زيادة الإنفاق الحكومي بمقدار وحدة واحدة سوف تؤدي إلى زيادة مقدارها 2.08 وحدة في الناتج المحلي الإجمالي. ومن ناحية ثانية فإن الكفاية الحدية للإنفاق الاستثماري العام أكبر من الواحد مما يعني أن الإنفاق الاستثماري العام ما زال اقل مما ينبغي بكثير. ويشار على أن معدل الإنفاق الاستثماري العام خلال الفترة 1970-2005 بحدود 13% في المتوسط. وكانت قد بلغت 16% في السبعينيات و12% في الثمانينيات و11% في التسعينيات أما الفترة 2001-2005 فقد بلغ معدل الإنفاق الاستثماري الحكومي 12.4% فقط.
وبالعودة إلى نظرية بارو فإن المعدل المناسب للإنفاق الاستثماري العام في سورية يجب أن يكون بحدود 23.5%.
وختاماً: أكرر تقديري لجهد السيد المحاضر للمعلومات التي قدمها وللعرض الجيد لهذه المعلومات. وكذلك الشكر والتقدير لجمعية العلوم الاقتصادية لإتاحتها هذه الفرصة لي.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
* - باحث اقتصادي، يحضِّر للدكتوراة في الاقتصاد الكلي بجامعة دمشق، ويعمل مستشاراً اقتصادياً في اتحاد العمال.
[1] - محمد جابر الأنصاري (1999): التأزم السياسي عند العرب وسوسيولوجيا الإسلام: مكونات الحالة الراهنة، بيروت، دار الشروق.
[2] - رائدفرملي (2002): تطور ومستقبل القطاع العام السعودي: نظرة تحليلية مقارنة، مجلة جامعة الملك سعود، مجلد 14، عدد 2.
[3] - يطلق البعض على الدولة الرعائية خطأً الدولة الأبوية، حيث إنه على الرغم من التلازم ما بين الدورين الرعائي والأبوي فإن الدولة الأبوية مفهوم يندرج في قاموس علم الاجتماع السياسي ويرتبط بسيطرة الدولة على مختلف مفاصل الحياة الاجتماعية والتنموية وتمارس الدولة ضبطاً للحراك الاجتماعي تحت سقف المقولات العامة لهذه الدولة، فيما يندرج الدور الرعائي ضمن مقولات الاقتصاد السياسي، ويتعلق بسيطرة الدولة على معيشة وأرزاق رعاياها.
[4] - لمزيد من التفصيل حول هذه النماذج يمكن مراجعة زين العابدين بري (2001): العلاقة بين الإنفاق الحكومي والنمو الاقتصادي في المملكة العربية السعودية للفترة (1970-1998)، مجلة جامعة الملك عبد العزيز: الاقتصاد والإدارة، مجلد 51، العدد 2.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق